زياد الرحباني: صوتنا الذي تعب قبلنا

زياد الرحباني هو جزء اساسي من حياة اجيالا استمعت اغلبها على مسرحياته وموسيقاه من خلال الكاسيتات في اواخر السبعينيات و فترة الثمانينات ومن خلال برامجه الاذاعية على صوت الشعب وبعدها طبعا، من خلال الشاشة الصغيرة التي عرضت لاثنين من اخر اعماله المسرحية ”بخصوص الكرامة والشعب العنيد“ و“لولا فسحة الامل“. تأثيره تعدى المجال الفني ليصبح اجتماعي ايضا حيث اصبحت بعض ردوده المسرحية او الاذاعية جزء من المصطلحات العامية التي تتداولها الناس. تأثير زياد الرحباني كفنان ومفكر في مجتمعه قد يكون بحاجة لاكثر من مجرد مقال.
ما زلت اذكر اول مرة تعرفت فيها الى زياد الرحباني. كنت ربما في العاشرة من عمري او اكثر او اقل. كنا نستمع في غرفة الجلوس في منزلنا في المزرعة مع الاهل الى مسرحية نزل السرور. ما فهمته من هذه الجلسة على قدر ما يمكن لسنيني القليلة ان تستوعب هو ان زياد استطاع ان يُضحك كبارنا في عزّ مآسيهم التي ولدتها الحرب الاهلية اللبنانية الحديثة العهد وينتزع منهم اقرارا بعبقريته التي توقعت حدوث هذا النزاع الذي استمر لسنين طويلة.
مع الوقت والاحداث الاليمة التي مرّت علينا والتي ولدت اسئلة ظلت لفترة طويلة من دون اجوبة واضحة اصبح زياد كفنان وسياسي يعبّر عن السخط الذي يعترينا امام عجزنا عن تقرير مصيرنا وتسليمنا او استسلامنا لمشيئة اولياء الامور من امراء الحرب ومشغليهم، والمحتمين دائما وابدا بمظلة فلسفة النظام الطوائفي.
زياد كان التعبير عن سخطنا امام نفاق الطوائف وكذبة العيش المشترك هو كان التعبير عن نبذنا لتلك الصورة الخادعة للبلد على انه همزة وصل بين شرق وغرب او رسالة حضارية ما، مازلنا نحاول فك رموزها بعد اكثر من ١٠٠ عام على اعلان دولة لبنان الكبير. كان زياد الرحباني التعبير الأدق عن حالة الانفصام الذي يعيشه المجتمع اللبناني في كونه حضاري وبربري في آن معا.
ابداع زياد على كل الاصعدة كان نتاج اصطدامه بهذا الواقع المتناقض بدء من تكوين وعيه في المنزل العائلي الفني الكبير وصولا الى دخوله معترك الحياة واختلاطه بالمجتمع يافعاً.
هذا الاصطدام خلف الم في نفس مفرطة الحساسية، ليس بالمعنى الهش طبعا، ترى العالم وتشعر به من خلال عدسة تحليلية معقدة لدرجة يصعب فهم تعبيراتها للوهلة الاولى. اضف الى ذلك ان زياد كان مثاليًا أو دقيقًا إلى حد الهوس في كتاباته المسرحية او الموسيقية، حيث كان يقضي ساعات طويلة بحثًا عن الجملة او النغمة المثالية التي تنسجم تمامًا مع مؤلفه.
فكانت النتيجة الم حقيقي يشعر به من جراء التعاطي اليومي مع مفاهيم اجتماعية كان يعرف مسبقا الى انها الن تثمر الا كوارث. هذا الالم تحديدا، في ان ترى مجتمع يتجه الى الهاوية بارادته، انتج ابداع زياد الفني.
هذا النوع من الرؤية التي امتلكها زياد الرحباني كانت عبء تعرضه لضغط عاطفي مستمر يُشعره بالعزلة والإرهاق. فهو لا يستطيع أن يُشيح بنظره عن واقع يؤلمه، ولا أن يُخدر نفسه كما يفعل الآخرون متوهمين ان تكرار الخطاء نفسها يمكن ان تؤدي الى نتيجة مختلفة. ادرك زياد الرحباني مع الوقت انه لا يستطيع تغيير الواقع مهما حاول وقد يكون هذا الادراك هو من اسباب عزلته الاخيرة وتردده في المضي في علاج كان يمكن ان يطيل من سنينه.
فهل كان الموت هو الحل عند زياد لكسر الالم النفسي الدائم الذي ارهقه؟