الذكاء الاصطناعي في صلب التفاهمات الأميركية الخليجية

يشهد العالم تحوّلاً جذرياً في المشهد التكنولوجي مع تصاعد أهمية الذكاء الاصطناعي، مما دفع العديد من الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول الخليج، إلى تعزيز شراكات استراتيجية جديدة تتجاوز النمط التقليدي القائم على الطاقة والدفاع. وفي مقدمة هذا التحول، يأتي التعاون الأميركي الخليجي في مجالات الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات كتجسيد لتبدل موازين القوى الاقتصادية والجيوسياسية.
تسارع خليجي نحو الاقتصاد الرقمي
تسعى دول الخليج، خصوصاً السعودية، الإمارات وقطر، إلى ترسيخ مكانتها كمراكز تكنولوجية عالمية، ضمن رؤى اقتصادية شاملة تهدف إلى تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط. وتُعد التكنولوجيا المتقدمة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، عنصراً محورياً في هذه الرؤى، وهو ما انعكس في استثمارات ضخمة تتجاوز تريليونات الدولارات في البنية التحتية الرقمية، البحث العلمي، والابتكار.
فالإمارات أعلنت التزامها بضخ 1.4 تريليون دولار في الاقتصاد الأميركي خلال العقد القادم، فيما تعهدت السعودية باستثمارات بقيمة 600 مليار دولار، معظمها في قطاعات الذكاء الاصطناعي، الطاقة النظيفة، وأشباه الموصلات.
شراكة أميركية خليجية جديدة بقيادة الذكاء الاصطناعي
تأتي زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الخليج – التي تشمل السعودية، الإمارات وقطر – كمحطة مفصلية في صياغة هذه الشراكة التكنولوجية المتقدمة. ووفق تقارير عدة، سيكون الذكاء الاصطناعي على رأس جدول أعمال الزيارة، مع التركيز على:
ويصاحب ترامب في هذه الجولة وفد رفيع من كبار التنفيذيين في شركات تكنولوجية أميركية كبرى، في مؤشر واضح على أن الذكاء الاصطناعي أصبح في قلب العلاقة بين الطرفين، وليس على هامشها.
توازن حساس بين التكنولوجيا والأمن القومي
رغم الحماسة المتبادلة، تشهد العلاقات تحديات تتعلق بالأمن القومي الأميركي، خصوصاً فيما يخص القيود المفروضة على تصدير الرقائق المتطورة إلى الشرق الأوسط، والتي فرضتها إدارة بايدن. غير أن إدارة ترامب تبحث الآن تخفيف هذه القيود، وسط دعوات داخلية في واشنطن لخلق توازن يحمي المصالح الأميركية دون إقصاء حلفاء استراتيجيين.
ووفق تقرير لـ"بلومبيرغ"، فإن الولايات المتحدة تدرس تعديل القيود على مبيعات شركة إنفيديا للإمارات، وسط نقاش متقدم في البيت الأبيض ووزارة التجارة الأميركية، وقد تُعلن صفقة "رقائق ثنائية" خلال زيارة ترامب.
اتفاقيات تكنولوجية كبرى: من G42 إلى OpenAI
انعكست ملامح هذا التعاون الجديد في اتفاقيات عدة أبرزها:
هذه التحركات تُظهر رغبة خليجية واضحة في بناء قدرات محلية متقدمة عبر شراكات نوعية مع كبريات شركات وادي السيليكون.
الذكاء الاصطناعي: أداة دبلوماسية وجيوسياسية
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد قطاع اقتصادي واعد، بل أصبح أداة لإعادة رسم التحالفات الإقليمية وتوسيع النفوذ العالمي. ووفق خبراء، فإن دول الخليج باتت تدرك أن التفوق في الذكاء الاصطناعي يمكن أن يمنحها مكانة متقدمة في النظام العالمي الجديد، تماماً كما فعل النفط في القرن العشرين.
الدكتور حسين العمري، خبير الذكاء الاصطناعي في كاليفورنيا، يرى أن التحولات الحالية تمثل بداية مرحلة جديدة من الشراكة الأميركية الخليجية، تتجاوز الملفات التقليدية لتصل إلى جوهر التفوق التكنولوجي والابتكار. وأضاف أن السعودية أطلقت مؤخراً شركة "هيومن" لتطوير نماذج لغوية عربية، في خطوة تهدف لتعزيز ريادتها في الذكاء الاصطناعي على المستوى الإقليمي.
تخفيف محتمل للقيود.. ولكن بشروط
وفق مراقبين، فإن تخفيف القيود الأميركية على تصدير الرقائق سيعتمد على تقييم لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة (CFIUS)، التي تدرس مدى تأثير هذه الصفقات على الأمن القومي، خصوصاً في ظل مخاوف متزايدة من احتمال وصول التكنولوجيا إلى الصين.
الشريكة في شركة "ماير براون" القانونية بواشنطن، ثيا كيندلر، قالت إن "على الجانبين إيجاد أرضية مشتركة لحماية المصالح التجارية الخليجية من جهة، ومخاوف الأمن القومي الأميركي من جهة أخرى".
التكنولوجيا كعمود فقري لتحالفات المستقبل
زيارة ترامب تُعد بمثابة إعلان رسمي بأن الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا سيكونان في صدارة العلاقات الأميركية الخليجية خلال السنوات المقبلة. فهي لا تتعلق فقط بنقل التكنولوجيا، بل ببناء تحالفات استراتيجية طويلة المدى تكرّس دور الخليج كمحور أساسي في الاقتصاد الرقمي العالمي.
يقول محمد سعيد، العضو المنتدب لشركة IDT للاستشارات: "ما نراه اليوم هو بداية شراكة من نوع جديد، تقودها المعرفة والابتكار، وتضع الذكاء الاصطناعي في صميم التفاهمات الأميركية الخليجية".
ختام: نحو مستقبل تكنولوجي مشترك
في ظل هذا التقارب المتسارع، يُتوقع أن تلعب التكنولوجيا، وبالأخص الذكاء الاصطناعي، دوراً حاسماً في صياغة شكل العلاقات الاقتصادية والسياسية بين واشنطن ودول الخليج. وتُعد هذه الشراكة الناشئة خطوة استراتيجية نحو بناء عالم متصل تكنولوجياً، تقوده قوى تجمع بين الخبرة الصناعية الأميركية والطموحات التنموية الخليجية.
بهذا، يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة تقنية إلى عنصر أساسي في معادلات النفوذ والازدهار العالمي، في لحظة يُعاد فيها رسم خريطة التحالفات الدولية من جديد.